سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


يقول الحق جل جلاله: {وإنْ جَنَحُوا للسَّلمْ} أي: وإن مالوا للصلح {فاجْنَح لها} أي؛ فصالحهم، ومل إلى المعاهدة معهم، وتوكل على الله؛ فلا تخف منهم أن يكونوا أبطنوا خداعاً؛ فإن الله يعصمك من مكرهم؛ {وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ} [فاطر: 42]، {إنه هو السميع} لأقوالهم، {العليم} بأحوالهم.
{وإنْ يُريدُوا أن يخدعُوك} بعد الصلح {فإن حَسْبَكَ الله} أي: فحسبك الله وكافيك شرهم، {هو الذي أيدك} أي: قواك ونصرك {بنصرِه}؛ تحقيقاً، {وبالمؤمنين}؛ تشريفاً، أو {بنصره} قدرة، {وبالمؤمنين} حكمةً، والقدرة والحكمة منه وإليه، فلا دليل عليه للمعتزلة حيث نسبوا الفعل للعبد، وقالوا: العطف يقتضي المغايرة.
{وألَّفَ بين قلوبهم} مع ما كان فيها من زمن الجاهلية من المعصية والضغائن والتهالك على الانتقام، حتى لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، ثم صاروا كنفس واحدة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً}، في إصلاح ما بينهم، {ما ألفت بين قلوبهم}؛ لتناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة بينهم، {ولكنَّ الله ألفَ بينهم} بقدرته البالغة؛ فإنه المالك للقلوب يُقبلها كيف يشاء. {إنه عزيز} تام القدرة، لا يَعصي عليه ما يريده، {حكيم} يعلم كيف ينبغي أن يفعل ما يريده.
قيل: إن الآية نزلت في الأوس والخزرج، كان بينهم إِحنٌ وضغائن لا أمد لها، ووقائع هلكت فيها ساداتهم، فأنساهم الله ذلك، وألَّف بينهم بالإسلام، حتى تصادقوا وصاروا أنصار الدين. وبالله التوفيق.
الإشارة: وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها؛ بأن ألقت السلاح، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح، وعقدت الرجوع عن هواها، والدؤوب على طاعة مولاها، فالواجب عقد الصلح معها، وتصديقها فيما تأمر به أو تَنْهَى عنه، مما يرد عليها، مع التوكل على مولاها، فإن خدعت بعد ذلك، أو رجعت إلى مألوفها، فالله يكفي أمرها، ويقوي صاحبها على درها، إما بسبب شيخ كامل، أو أخ صالح، فإن الصحبة فيها سر كبير، لا سيما مع أهل الصفاء، الذين صفت قلوبهم، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد، وحسن الظن والاعتقاد، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية. وبالله التوفيق.


قلت: {حسبك}: مبتدأ، و{الله}: خبر، ويصح العكس، و{من اتبعك}: إما عطف على {الله}، أي: كفاك الله والمؤمنون، أو في محل نصب على المفعول معه، أو في محل جر؛ عطف على الضمير، على مذهب الكوفيين، أي: حسبك وحسب من اتبعك الله، والأول: أصح.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله} أي: كافيك الله، فلا تلتفت إلى شي سواه، أي: لَمّا مَنَنْتُ عليك بائتلاف قلوب المؤمنين في نصرتك، فلا تلتفت إليهم في محل التوحيد، فإني حسبك وحدي بغير معاونة الخلق، فينبغي أن تفرد القدم عن الحدوث في سيرك مني إليَّ، وأنا حسب المؤمنين عن كل ما دوني، وإن كان مَلَكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، ولا ينبغي في حقيقة التوحيد النظر إلى غيري، إنما أيدتك بواسطة المؤمنين، وذَكَرتُهم معي؛ تشريفاً لأمتك، وستراً لقدرتي، وإظهار لكمال حكمتي، وإلا فقدرتي لا يفوتها شيء، ولا تتوقف على شيء؛ جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل.
قال البيضاوي: نزلت الآية تأييداً في غزوة بدر، وقيل: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه. فنزلت. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في إسلامه.
الإشارة: ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب به ورثته الكرام، من الاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه، وتصحيح عقد التوحيد، والاعتماد على الكريم المجيد. والله تعالى أعلم.


قلت: التحريض: هو الحث على الشيء والمبالغة في طلبه، وهو من الحرض، الذي هو الإشفاء على الهلاك.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها النبي حرّض المؤمنينَ} أي: حثهم {على القتال} أي: الجهاد. ثم أمرهم بالصبر والثبات للعدو بقوله: {إنْ يكنْ منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا}، وهذا خبر بمعنى الأمر، أي: يقاتل العشرون منكم المائتين، والمائة الألف، وليثبتوا لهم، ولا يصح أن يكون خبراً محضاً؛ إذ لو كان خبراً محضاً لَمَا تخلف في الواقع، ولو في جزئية؛ إذ خبره تعالى لا يخلف.
قال الفخر الرازي: حَسُن هذا التكليف لِما كان مسبوفاً بقوله: {حسبُكَ الله ومن اتبعك من المؤمنين}؛ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً؛ لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إذايته. اهـ.
وإنما كان القليل من المؤمنين يقاوم الكثير من الكفار {بأنهم}؛ بسبب أنهم {قوم لا يفقهون}، أي: لأنهم جهلة بالله واليوم الآخر، فلا يثبتون ثبات المؤمنين، رجاء الثواب والترقي في الدرجات، قتلوا أو ماتوا، بخلاف الكفار؛ فلا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان.
ولمّا كلفهم بهذا في أول الإسلام، وشقَّ ذلك عليهم، خفف عنهم فقال: {الآن خففَ الله عنكم وعَلِمَ أن فيكم ضعفاً}؛ فلا يقاوم الواحدُ منكم العشرة، ولا المائةُ الألفَ، {فإن يكن منكم مائة صابرة يَغْلِبُوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله}؛ أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين. وقيل: كان فيهم قلة، فلما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة؛ للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد، والضعف: ضعف البدن، لا ضعف القلب.
قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار، وبقي العشر. ولذلك قال تعالى هنا: {والله مع الصابرين} أي: بالنصر والمعونة، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده؟.
الإشارة: ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم، الذي هو الجهاد الأكبر، وإنما كان أكبر؛ لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله، بخلاف النفس فإنها جاءت تحت الرماية خفية عدو حبيب، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها، ويهونوا لهم شأنها، فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت، وسهل علاجها، وإذا خِفت منها، وسوَّفت لها، طالت عليك وملكتك، ولا بد في جهادها من شيخ يريك مساوئها، ويعينك بهمته على قتلها، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها، وهي المعرفة بسيدها وخالقها. والله تعالى أعلم.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14